المذاهب الفقهية الأربعة
تفاوتت أراء المذاهب الأربعة السنية ، في خصوص البناء على القبور ، فكانت أرائهم في العموم كالآتي :
التطيين : جوّزه الحنابلة ، والمختار من الحنفية ، ونقل الترمذي على الشافعي أنّه قال : لا بأس بذالك ، أمّا المالكية وبعض الشوافع ، وكذالك بعض الحنفية[١٧] .
البناء على القبر في الجملة ، سواء كان قبة أم بيت أم غيرها : المالكية و الحنابلة و الشافعية كرّهوه ، لحديث جابر « نهي رسول الله أن يجصص القبر » ، أما الحنفية فحرّموه إذا كان للزينة ، وكرهوه إذا كان للإحكام والحفاظ عليه بعد الدفن [١٨].
التجصيص : اتفقت المذاهب الأربعة على كراهته[١٩] .
المالكية
ذهب المالكية إلى كراهة التطيين والتجصيص وبناء القباب على القبور ، وهذا نص ما نقله ابن سحنون عن مالك :
قال مالك : أكره تجصيص القبور والبناء عليها ، وهذه الحجارة التي يبنى عليها[٢٠]، انتهى .
وذكر الدسوقي في حاشيته ما نصه :
وقوله [يكره][٢١] دفنه بدار : إنّما كُره لأنّه لا يُؤمَن عليه أن يُنبَش مع انتقال المُلك[٢٢] ، انتهى .
ونقل الشافعي عن مالك قائلا : أخبرنا مالك :
أنّ رسول الله قال: « قاتل الله اليهود والنصارة ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، لايبقى دينان بأرض العرب »[٢٣] ، انتهى .
ثم قال الشافعي :
وأكره هذا للسنّة والآثار ، وأنّه كره ، والله تعالى أعلم ، أن يُعظم أحد من المسلمين ، يعني : يتخذ قبره مسجدًا ، ولم تؤمن في ذالك الفتنة والضلال على من يأتي بَعدُ ، فكره والله أعلم لئلا يوطأ فكره ، والله أعلم ، لأنّ مستودع الموتى من الأرض ليس بأنظف الأرض ، وغيره من الأرض أنظف[٢٤] ، انتهى .
الشافعية
قالت الشافعية بكراهة البناء على القبور وتجصيصها واتخاذها مسجدًا ، وهذا نص ماقاله الشافعي:
وأحب ألاّ يجصص ، فإنّ ذالك يشبه الزينة والخيلاء ، وليس الموت موضع واحد منهما ، ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة[٢٥] , انتهى .
وقال في موضع آخر : فإن كانت القبور في الأرض يملكها الموتى في حياتهم أو ورثتهم بعدهم ، لم يهدم شيء أن يبنى منها ، وإنّما يُهدم إن هدم ، مالا يملكه أحد ، فهدمه لئلاّ يحجر على النّاس موضع القبر ، فلا يُدفن فيه أحد ، فيضيق ذالك بالنّاس[٢٦] ، انتهى .
وقال في موضع آخر : وأكره أن يبنى على القبر مسجد ، وأن يسوى أو يُصلَى عليه وهو غير مسوى ، أو يُصلَي إليه ، وإن صَلَى إليه أجزأه وقد أساء [٢٧]، انتهى .
الحنفية
كره الحنفية تجصيص وتطيين القبر ، وكذالك البناء عليه ، وفي ما يلي نص ماذكره الإمام الكاساني الحنفي :
قال الكاساني : ويكره تجصيص القبر وتطيينه ، وكره أبو حنيفة البناء على القبر ، وأن يُعلّم بعلامة ، وكره أبو يوسف [٢٨] الكتابة عليه ، ذكره الكرخي ، لما روي عن جابر بن عبد الله عن النبي أنّه قال : « لاَ تُجَصِّصُوا القُبُورَ وَلاَ تَبْنُوا عَلَيْهَا ولاَ تَقْعُدُوا ولاَ تَكْتُبُوا عَلَيْهَا » ، ولأن ذالك من الزينة ، ولا حاجة للميت إليها ، ولأنّه تضييع المال بلا فائدة ، فكان مكروهًا[٢٩] ، انتهى .
وفي موضع آ خر قال : قال أبو حنيفة : ولابأس بزيارة القبور والدعاء للأموات إن كانوا مؤمنين ، من غير وطء القبور ، لقول النبي : «إِنِّي كُنتُ نَهَيتُكُم عَن زِيَارَةِ القُبُورِ ، أَلاَ فَزُورُوهَا ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَة » ، ولعمل الأمّة من لَدُن رسول اللّه إلى يَومنَا هذا[٣٠] ، انتهى .
الحنبلية
ذهب الحنابلة لجواز التطيين القبر ، بل قيل باستحبابه عند بعضهم [٣١]، وكرهوا التجصيص عليه وكذالك البناء على القول المشهور عندهم ، وقال بعضهم بجواز بناء القبة عليه أو بيت وحظيرة في ملكه[٣٢] ، وكَره بعضهم بناء القبب الفاخرة على القبر[٣٣] ، وحرّموا اتخاذ القبور مساجد ، إلاّ أنّ بعضهم جوّز الدفن في البيت والقباب والحظائر كما عرفت ، الذي لا يرى العرف فرقًا بينه وبين البناء على القبر . وهذا نص ما قالوا ابن قدامة :
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنّما، ويرش عليه الماء ،و لابأس بتطيينه ، ويكره تجصيصه والبناء والكتابة عليه والجلوس والوطء عليه والاتكاء إليه[٣٤] ، انتهى .
ويقول ابن قدامة في كتاب الكافي ، ما نصّه :
ويكره البناء على القبر ، وتجصيصه ، والكتاب [الكتابة] عليه : لقول جابر :نهى رسول الله أن يُجصّص القبر ، وأن يبنى عليه ، وأن يقعد عليه ، رواه مسلم ، وزاد الترمذي : وأن يكتب عليها ، وقال حديث حسن صحيح ، ولأنّه من زينة الدّنيا ، فلا حاجة للميّت إليه[٣٥] ، انتهى .
ثمّ قال : ولا يجوز أن يبنى عليه مسجد ، لقول النبي « لعن الله اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد » ، يُحذِّر مثل ما صنعوا ، متّفق عليه[٣٦]، انتهى .
وقال فقيه الحنابلة ، المرداوي ، مانصّه :
أمّا التجصيص : فمكروه بلا خلاف نعلمه ، وكذا الكتابة عليه ، وكذا تزويقه ، وتخليقه ، ونحوه ، وهو بدعة . أمّا البناء عليه : فمكروه على الصحيح من المذهب ، سواء لاصق البناء الأرض أم لا ، وعليه أكثر الأصحاب . قال في الفروع : أطلقه أحمد ، والأصحاب ، انتهى .